فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [6].
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أي: نشأته وطبيعته خلقه ومظهره {هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً} أي: موافقة لما يراد منها من جمع الهم، وهدوء البال.
{وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي: أشدّ مقالاً وأصوبه.
قال ابن قتيبة: لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، ويخلص القول، ولا يكون دون تسمّعه وتفهمه حائل.
ونقل السيوطي عن الجاحظ قال: ناشئة الليل هي المعاني المستنبطة من القرآن بالليل، أشد وطأً أبين أثراً. وأقوم قيلاً، أصحُّ مما تخرجه الأفكار بالنهار، لخلوّ السمع والبصر عن الاشتغال.

.تفسير الآيات (7- 9):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [7- 9].
{إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} أي: تقلباً في مهماتك، واشتغالاً بها، فلذا أمرت بقيام الليل.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي: دم على ذكره ليلاً ونهاراً. قال الزمخشري: وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكرٍ طيب: تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعات ليله ونهاره.
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي: أخلص إليه بتجريد النفس عن غيره، إخلاصاً عظيماً.
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي: تكل إليه مهامك، فإنه سيكفيكها.
قال ابن جرير: أي: فيما يأمرك، وفوض إليه أسبابك.

.تفسير الآيات (10- 14):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} [10- 14].
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي: من الأذى والفَرْي {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} أي: بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل، كما قال تعالى {وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 48] {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أي: دعني وإياهم، وكِل أمرهم إليّ، فإن بي غنيمة عنك في الانتقام منهم.
{أُولِي النَّعْمَةِ} أي: التنعم، يريد صناديد قريش ومترفيهم.
{وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: تمهل عليهم زماناً، أو إمهالاً قليلاً.
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} أي: قيوداً {وَجَحِيماً} أي: نار شديدة الحرّ والاتّقاد {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} أي: يغصُّ به آكله فلا يسيغه، {وَعَذَاباً أَلِيماً} أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه. أي: فلا ترى موكولاً إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} أي: تضطرب وترتجّ بالزلزال، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} أي: رملاً متفرقاً منثوراً.

.تفسير الآيات (15- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [15- 16].
{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} أي: بإجابة من أجاب وإباء من أبى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} أي: يدعوه إلى الحق.
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي: ثقيلاً، وذلك بإهلاكه ومن معه، غرقاً في اليم.

.تفسير الآيات (17- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [17- 19].
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} أي: كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم، ولم تؤمنوا بالحق، يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر.
قال ابن أبي الحديد: لأن في اليوم الشديد: إنه ليشيب نواصي الأطفال، كلام جار مجرى المثل. وليس ذلك على حقيقته؛ لأن الأمَّة مجتمعة على أن الأطفال لا تتغير حُلاهم في الآخرة إلى الشيب. والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الْإِنْسَاْن شاب سريعاً. قال أبو الطيب:
والهمُّ يخترم الجسيمَ نحافةًً ** ويشيب ناصية الصبيّ ويُهْرٍمُ

{السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} قال الزمخشريّ: وصف لليوم بالشدة أيضاً. وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟
قال السمين: وإنما لم تؤنث الصفة لأحد الوجوه:
منها: تأويله بالمشتق. ومنها: أنها على النسب، أي: ذات انفطار، نحو: مرضع وحائض.
ومنها: أنها تذكر وتؤنث. ومنها: أنها اسم جنس يفرق بينه وبين واحدة بالتاء، فيقال: سماءة، وفي اسم الجنس التذكير والتأنيث. والباء في {بِهِ} سببية أو للاستعانة، أو بمعنى في.
{كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي: لأنه لا يخلف وعده، فاحذروا ذلك اليوم.
{إِنَّ هَذِهِ} أي: الآيات الناطقة بالوعيد الشديد {تَذْكِرَةً} أي: موعظة لمن اعتبر بها واتّعظ، {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي: بالإيمان به، والعمل بطاعته.

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [20].
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} أي: تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالاً لأمره وتبتلاً إليه، {وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أي: يعلمهم كذلك، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: أن يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يعتدلان، وتارة يزيد أحدهما في الآخر، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم. أشار إليه ابن كثير. أو المعنى: السورة من التخيير، ترخيصاً وتيسيراً.
{عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي: قيام الليل على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، للحرج والعسر {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: عاد عليكم باليسر ورفع الحرج.
{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أي: في صلاة الليل بلا تقدير. أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم، رحمة بأنفسكم. وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه، شوقاً إلى العبادة، وسبقاً إلى الكمالات.
قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب مما أمر به من قيام ما فرض عليه- نقله الرازي-.
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى} أي: يضعفهم المرض عن قيام الليل {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} أي: للتجارة وغيرها، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: لنصرة الدين، فلا يتفرّغون للقيام فيه {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي: من القرآن، ولا تحرّجوا أنفسكم، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
تنبيهات:
الأول: ذهب كثير من السلف إلى وجوب قيام الليل المفهوم من الأمر به طليعة السورة، منسوخ بهذه الآيات.
روى ابن جرير عن عائشة قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب- وكان بهم رحيماً- فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: «يا أيها الناس؟ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما دمتم عليه»، ونزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} الآية، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى اللهُ ما يبتغون من رضوانه فرحمهم، فردهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل.
قال ابن كثير: والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك، وإنما هي مكية. انتهى كلامه.
أقول: وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: ونزلت الآية، الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها، كما بيناه مراراً.
وأخرج أيضاً عن ابن عباس قال: أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلاً، فشقَّ ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم} الآية، فوسع الله- وله الحمد- ولم يضيق.
وعن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قاموا بها حَوْلاً حتى ورمِت أقدامهم وسُوقهم، حتى نزلت: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فاستراح الناس.
وهكذا روي عن سعيد والحسن وعكرمة وقتادة.
قال ابن حجر في شرح البخاري: ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة، ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقاً، ثم نسخ بالخمس. وأنكره المروزيّ. وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة.
وقال السيوطيّ في الإكليل: قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} هو منسوخ بعد أن كان واجباً، بآخر السورة. وقيل: محكم، فاستدل به ندب قيام الليل. واستدل به طائفة على وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وآخرون على وجوبه على الأمة أيضاً، ولكن ليس الليل كله، بل صلاة ما فيه، وعليه الحسن وابن سيرين. انتهى.
أقول: من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه للندب، يرى أن آخر السورة تعليمٌ لهم الرفقَ بأنفسهم، لأنه تاب عليهم باليسر، ورفع عنهم الآصار. وفيه ما يدل على عنايتهم بالمندوب، وحرصهم عليه، حتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه. ويدل عليه أثر عائشة في ربطهم الحبل للتعلق به، استعانة على قراءة القرآن، وكثرة تلاوته.
الثاني: قال ابن كثير: في قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} تعبير عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} [الإسراء: 110]، أي: بقراءتك. وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، بهذه الآية، على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه. واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين، وهو: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن». وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة إلا أن يقرأ بفاتحة الكتاب». انتهى.
الثالث: في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} علم من أعلام النبوة.
قال ابن كثير: هذه الآية، فهي السورة كلها، مكية. ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
الرابع: قال ابن الفَرَس: في قوله:
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} فضيلة التجارة، لسوقها في الآية مع الجهاد.
أخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله، أحب إلي أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله. ثم تلا هذه الآية.
وقال السيوطي: هذه الآية أصل في التجارة.
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} أي: زكاة أموالكم.
قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة.
{وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} يعني به بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن وجه، يكون من أطيب المال، وإعطاءه للمستحق من غير تأخير، واتقاء المنّ والأذى. وسر الأمر بـ الحسن أن القرض لما كان يعطى بنية الأخذ، لا يبالي بأي شيء وأي مقدار يعطي منه، فأشير إلى إيثار المقام الأرفع. ولكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا.
{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} أي: في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله، أو غير ذلك من أعمال البر {تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} أي: ثواباً مما عندكم من متاع الدنيا.
{وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ} أي: سلوه غفران ذنوبكم، {إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب، ورحمة أن يعاقبكم عليها بعد توبتهم منها.

.سورة المدثر:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 7):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [1- 7].
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أي: المتلفِّف بثيابه لنوم أو استدفاء، من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار. والشعار الثوب الذي يلي الجسد. وأصله: المتدثر، فأدغم، خوطب بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزول الوحي. أو لقوله: «دثروني» كما تقدم- وقيل: معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة، من قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم. ويقال: تلبس فلان بأمر كذا. فجعل النبوة كالدثار واللباس مجازاً.
قال الشهاب: إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة. وكذا يسمى حلّة. والتشبيه بالدثار في ظهورها، أو في الإحاطة. والأول أتم.
{قَمْ} أي: من مضجعك ودثارك. أو قيام عزم وجدّ {فَأَنذِرْ} أي: فحذر قومك من العذاب إن لم يؤمنوا.
قال الشهاب: لم يقل {وَبَشِّرِ} لأنه كان في ابتداء النبوة، والإنذار هو الغالب، لأن البشارة لمن آمن، ولم يكن إذ ذاك. أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قال ابن جرير: أي: فعظِّم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك، دون غيره من الآلهة والأنداد.
وقال القاشاني: أي: إن كنت تكبر شيئاً وتعظِّم قدره، فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينك غيره، ويصغر في قلبك كل ما سواه، بمشاهدة كبريائه.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: بالماء من الأنجاس. قال ابن زيد، كان المشركون لا يتطهرون، فأمره أن يتطهر ويطهِّر ثيابه. وقيل: هو أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام. قال قتادة: العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب. وإذا وفى وأصلح، قالوا: مطهر الثياب.
وعن ابن عباس: أي: لا تلبسهما على معصية، ولا على غدرِة. ثم أنشد لغيلان ابن سلمة الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوبَ فاجر ** لبستُ ولا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ

وفي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما، وفي الثاني تجوّز بهما. وبقي وجه ثالث، وهو حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التبصير؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرّون أذيالهم خيلاء وكبراً، فأمر بمخالفتهم. ورابع وهو عكس هذا، وذلك بحمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال عنترة:
فشككتُ بالرمح الأصمِّ ثيابَه

أي: نفسه. ولذا قال:
ليس الكريم على القنا بِمُحَرَّمِ

واستصوب ابن الأثير في المثل الساتر الوجه الأول. قال في الفصل الثالث من فصول يلبس: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل، كقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس. ومن تأول، ذهب إلى أن المراد هو القلب، لا الملبوس، وهذا لابد له من دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ.
ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف. والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف؛ إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا، فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل، فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية، فإن السيف بضاربه:
إن السيوفَ مع الذين قلوبهم ** كقلوبهن، إذا التقى الجَمعان

تلقى الحسامَ على جراءَة حدَّه ** مثَل الجبان بكفِّ كل جبانِ

انتهى.
ويكفي دليلاً ما للعرب من الشواهد والأمثال. والاستعمال لا ينحصر في الحقيقة. نعم، المتبادر أولى وأجدر، وهو عنوان الحقيقة.
وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي: اتركه. والرجز بكسر الراء كالرجس والسين والزاي يتبادلان، لأنهما من حروف الصفير. والرجس اسم للقبيح المستقذر، كنِّي به عن عبادة الأوثان خاصة، لقوله:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسَّفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز.
وقيل: المراد بالرجز العذاب، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي.
فالرجز مجاز، وقد أقيم مقام سببه. أو هو بتقدير مضاف، أي: أسباب الرجز. أو التجوز بالتشبيه.
وقرئ بضم الراء، وهو لغة في المكسور، وهما بمعنى، وهو العذاب.
وعن مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم، وبالكسر العذاب.
وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو بريء منه، إما أمر لغيره تعريضاً، أو المراد الدوام على هجره.
{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أي: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، بمعنى: لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه. يقال: مننت فلاناً كذا، أي: أعطيته. كما قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص: 39]، أي: فأعط أو أمسك. وأصله أن من أعطى فقد منَّ، فسميت العطية بالمنّ على سبيل الاستعارة. وجوّز القَفَّالُ أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العِوض كيف كان زائداً على العطاء. فسمي طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله. وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد، للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً. ثم اتسع الأمر فسمي ربيباً، وإن كان، حين تتزوج أمه، كبيراً.
وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففاً وكمالاً وعلوّ همة.
وقيل: معنى الآية لا تعط عطاءً مستكثراً له، فإن مكارم الأخلاق استقلال العطاء، وإن كان كثيراً، فالسين للعد والوجدان. وسبق في سورة الروم في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39]، كلام في هذه الآية أيضاً فارجع إليه.
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي: على أذى المشركين.